رحلة تطوير التلسكوب

رحلة تطوير التلسكوب واستكشاف الكون

طبيعة الأشياء التطور؛ فالإنسان بطبعة يبحث عن الكمال في العلم والمعرفة، لذلك ترا في العقود المتقدمة من التاريخ أدوات ومعدات بدائية ولكنها أصبحه أحدث في هذا العصر.

ومن الأدوات والمعارف التي خضعة لهذا التطور المذهل هو التلسكوب، حيث أنه تطور بشكل ملحوظ عم كان علية في الماضي.

دعنا الان نبحر في هذه التطورات المذهلة التي طرأت على التلسكوب.

تطوير التلسكوب

شرارات العاكس

اقترح يوهانس كيبلر اختلافًا في مقراب غاليليو في كتابه “انكساري (Dioptrice)” عام 1611 م. وأشار إلى أنه يمكن بناء جهاز مقرابي (تلسكوبي) باستخدام عدستين محدبتين، لكن الصورة التي ينتجها ستكون مقلوبة رأسا على عقب.

وكانت ميزة هذا التصميم، وفقًا لكبلر، هي مجال الرؤية الأكبر والتكبير العالي ومع ذلك، لم يتم قبول توصيته على الفور من قبل علماء الفلك ولم يتم قبول مقراب كيبلر حتى نشر شاينر كتابه “روزا أورسينا(Rosa Ursina)” عام 1630 م.

من أجل دراسته للبقع الشمسية، قام شاينر بتجربة المقاريب التي تحتوي على عدسات محدبة فقط ووجد أنه عندما ينظر إلى جسم ما مباشرة من خلال مثل هذه الأداة، فإن الصورة تنقلب رأسًا على عقب.

لكنه كان أكثر سطوعًا ويمتلك مجال رؤية أكبر بكثير مما هو عليه في مقراب غاليليو (المحتوي على عدسة مقعرة)، كما تنبأ كيبلر.

منظر 7: لوحة البقع الشمسية من كتاب “ثلاث رسائل عن البقع الشمسية (Tres epistolæ de maculis solaribus)” لشاينر [المصدر].

وبما أن الصورة المقلوبة لا تمثل مشكلة بالنسبة للأرصاد الفلكية، فقد أدت مزايا ما أصبح يعرف باسم “المقراب الفلكي (astronomical telescope)” إلى قبوله بشكل عام في المجتمع العلمي بحلول منتصف القرن السابع عشر.

أحد عيوب المقراب الفلكي الذي اقترحه كيبلر ودافع عنه شاينر هو أن التكبير الأعلى كان مصحوبًا بمزيد من الانحراف الكروي واللوني – تشويه هندسي وألوان زائفة.

وحتى القرن الثامن عشر، استخدم علماء الفلك بشكل أساسي المقاريب الطويلة الكاسرة (refracting)، المصممة حول عدسة زجاجية دقيقة الشكل ومع ذلك، قدمت تصميمات المقاريب الأخرى طريقة لتجنب بعض العيوب التي لا يمكن تجنبها في العدسات الكاسرة.

ففي عام 1668 م، ابتكر إسحاق نيوتن المقراب العاكس (reflecting). بدلاً من العدسة، استُخدِمت مرآة رئيسية منحنية واحدة، مع مرآة مسطحة أصغر.

وفي القرن التالي، تبين أن الأدوات الضخمة المنحدرة من تصميم نيوتن مفيدة بشكل خاص لدراسة الأجسام الخافتة جدًا، مثل بقع الضوء الخافتة المعروفة باسم السديم (أجرام سماوية تتكون من الغازات والغبار الكوني).

اقترح عالم الرياضيات الأسكتلندي ، جيمس غريغوري، تصميمًا جديدًا للمقراب العاكس في كتابه الذي صدر عام 1663 م بعنوان “تطور علم البصريات (Optica Promota)”.

تميز التصميم النظري لغريغوري بمرآة أساسية (primary) ذات انحناء مكافئ (parabolic). من شأنه عكس الضوء إلى مرآة ثانوية (secondary) بيضاوية الشكل، والتي تعكسه مرة أخرى إلى الأسفل من خلال ثقب في المرآة الأولية إلى عين الفلكي.

التصميم الغريغوري، جنبًا إلى جنب مع تصميم كاسيجرين (Cassegrain) المشابه ظاهريًا للغريغوري، سيصبح في نهاية المطاف التصميم السائد للمقاريب العاكسة.

ولكن في الوقت الذي تم فيه اقتراح هذه التصاميم، لم يتمكن أخصائيو البصريات من تلميع المرايا ذات المنحنيات غير الكروية (parabolic). حاول بعض أخصائي البصريات في لندن إنتاج مقاريب عاكسة، لكنهم فشلوا.

عاكس نيوتن

وجاء التطور الأكثر أهمية عندما استنتج إسحاق نيوتن، أن المقاريب الكاسرة للضوء ستكون دائمًا معيبة؛ لأن أي عدسة من شأنها، مثل المنشور، تشتيت ألوان الضوء بما يتناسب طرديا مع الانكسار.

وكانت النتيجة انحرافًا (زيغًا) لونيًا (chromatic aberration)، حيث تظهر صورة النجم الأبيض دائمًا لطخة من الألوان. لذلك حول نيوتن انتباهه إلى تصميم مقراب عملي يستخدم مرآة لجمع ضوء النجوم.

قدم نيوتن تصميمه إلى الجمعية الملكية في إنجلترا في يناير 1672 م، حيث أثار اهتمامًا كبيرًا، وقد نجح في صنع مرآة ذات انحناء كروي قطرها أقل بقليل من بوصة واحدة.

وكانت المرآة مصنوعة من سبيكة من النحاس والقصدير، قد أضاف إليها نيوتن قليلًا من الزرنيخ لتسهيل صقلها وكانت قوة التكبير حوالي 40.

منظر 8: مقراب نيوتن العاكس الذي قدمه إلى الجمعية الملكية عام 1672 م [المصدر].

على الرغم من أن مقراب نيوتن أثار الاهتمام، إلا أنه ظل يثير الفضول إلى حد كبير، وحاول آخرون صقل مرايا ذات انحناء منتظم ولكنهم فشلوا، ومما زاد المشكلة تعقيدا أن المرآة المعدنية أصبحت مشوهة وكان لا بد من إعادة تلميعها كل بضعة أشهر، مما قد يؤثر على الانحناء.

مرايا جون هادلي

في 1717 م، وبمساعدة شقيقيه، بدأ جون هادلي في تجربة صقل وتلميع المعادن باستخدم السَّجنجل أو سبيكة المرايا المعدنية (speculum metal)، وهو مزيج من البرونز والفضة يستخدم في صناعة المرايا منذ العصور القديمة.

تمكن هادلي من تلميع مرآته المعدنية بحيث يكون لها شكل مكافئ (parabolic) تقريبًا، متجنبًا التشوه في المقاريب السابقة ذات المنحنيات الكروية.

عرض هادلي لأول مرة مقرابه في اجتماع للجمعية الملكية، حيث تشير السجلات من الاجتماع أنها كانت قوية بما يكفي “لتكبير الجسم بما يقرب من مائتي مرة”.

كان حامل المقراب لا يقل أهمية عنه فقد طور هادلي ما يسمى الآن حامل الارتفاع والسمت (altitude-azimuth mount)، والذي يقع بالتوازي مع الأفق، ويشير محور السمت إلى الاتجاه العمودي.

باستخدام حامل الارتفاع والسمت، كان على عالم الفلك تحريك المقراب على طول محورين في وقت واحد لإبقاء الجسم في نطاق الرؤية، ولكن تم تعويض ذلك بحجمه الصغير نسبيًا.

هيمنة الكاسر

اعتمد على المقراب الكاسر كأداة بحث جادة عن التقدم التكنولوجي،حيث كان على صانعي الزجاج أن يتقنوا صناعة الزجاج البصري عالي الجودة، وكان على أخصائيي البصريات اكتشاف طرق لتجنب لطخات الألوان بواسطة العدسات (الزيغ اللوني).

فعلى سبيل المثال، يمكن لشوائب الحديد الموجودة في الرمال المستخدمة في صناعة الزجاج أن تؤدي إلى تلوين الزجاج، في حين أن الفقاعات الصغيرة أو العيوب الأخرى يمكن أن تجعل الزجاج عديم الفائدة كالعدسات.

حدث تقدم كبير في التغلب على الزيغ اللوني المتأصل في العدسات الكاسرة في خمسينيات القرن الثامن عشر وقد علم اختصاصي البصريات الإنجليزي، جون دولند، بدراسات سابقة أظهرت كيفية إزالة كل الزيغ اللوني تقريبًا.

كانت الحيلة هي الجمع بين عدسة مقعرة مصنوعة من زجاج محتوي على الصوان (flint) مع عدسة محدبة مصنوعة من زجاج ذي كثافة أقل قليلاً، فتتجمع الألوان التي تشتتها العدسة الأولى معًا مرة أخرى بواسطة العدسة الثانية.

أصبحت هذه تسمى العدسات اللا لونية (achromatic)،وحصل دولند على براءة اختراع لتصميمه، لكن الجودة الرديئة لزجاج الصوان المتوفر في ذلك الوقت حدت من فائدته.

بين عامي 1784 و1790 م، قام بيير لويس غويناند، وهو حرفي سويسري، بتعلم المهارات الأساسية لصناعة الزجاج وبدأ في تجربة الزجاج البصري، لكن محاولاته الأولى غير مرضية، فغويناند لم يكن قادرًا على صنع عدسات عالية الجودة حتى أواخر تسعينيات القرن الثامن عشر.

جاء الإنجاز الكبير الذي حققه غويناند في عام 1805 م، عندما استبدل القضبان الخشبية الطويلة المستخدمة لخلط الزجاج الساخن في الفرن بأدوات تقليب مصنوعة من الطين.

جلبت أدوات التحريك الجديدة الفقاعات غير المرغوب فيها إلى السطح وخلطت الزجاج جيدًا بما يكفي لإنتاج مادة خالية من العيوب تقريبًا.

تم إغراء غويناند بالذهاب إلى ميونيخ من قبل شركة بصريات ألمانية، حيث نقل سره إلى جوزيف فراونهوفر، أخصائي البصريات المتدرب.

أثمرت جهود فراونهوفر في العديد من المقاريب الكاسرة الممتازة، التي تم بناؤها قبل وفاته، وكان أحد هذه المقاريب مقاس 9.5 بوصة في مرصد دوربات الروسي، الذي تم تركيبه في عام 1824 م.

تمت ملاحظة “كاسر دوربات العظيم (Great Dorpat Refractor)” الذي يبلغ طوله 14 قدمًا ليس فقط لجودة عدساته العالية ولكن أيضًا بسبب حامله, والذي عرف بكونه أول مثال للحامل الاستوائي (equatorial mounting).

منظر 9: الفرق بين حامل الارتفاع والسمت والحامل الاستوائي [المصدر].

كانت الميزة الكبرى لحامل فراونهوفر الاستوائي هي أن المحور القطبي كان يدور بشكل مستمر بواسطة آلية الساعة (Clock drive)، بحيث يعوض هذا المحور دوران الأرض في حركة يومية من خلال قيادة محور واحد بسرعة ثابتة عكس اتجاه دوران الأرض.

وهذا يسمح للمقراب بالبقاء ثابتًا على نقطة معينة في السماء دون الحاجة إلى إعادة توجيهه باستمرار بسبب دوران الأرض؛ وهكذا قام المقراب بتتبع النجوم تلقائيا.

كانت الآلية نفسها تعمل على تروس الساعة ولكن في الوقت الحاضر يتم تشغيلها كهربائيًا.

أصبح ابتكار فراونهوفر جزءًا من التصميم القياسي (standard) للمقاريب في القرن التاسع عشر، مما سمح لعلماء الفلك برؤية سماء الليل بسهولة أكبر.

وقد ثبت أن التركيب الاستوائي الذي تحركه آلية الساعة ضروري عندما أُدخل التصوير الفوتوغرافي إلى علم الفلك في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر، لأنه أتاح إمكانية التعريض الطويل للوحات التصوير الفوتوغرافي.

اكتشاف غير متوقع على الإطلاق…

في عام 1835 م صرح أوغست كونت، الفيلسوف الفرنسي البارز، أن البشر لن يتمكنوا أبدًا من فهم التركيب الكيميائي للنجوم وسرعان ما ثبت خطأه.

ففي النصف الأخير من القرن التاسع عشر، بدأ علماء الفلك في تبني تقنيتين جديدتين: التحليل الطيفي، والتصوير الفوتوغرافي، واللَّتان ساعدتا معًا في إحداث ثورة في فهم الناس للكون.

ولأول مرة، تمكن العلماء من التحقق مما يتكون الكون فكانت هذه نقطة تحول رئيسية في تطور علم الكونيات، حيث تمكن علماء الفلك من تسجيل وتوثيق ليس فقط أين كانت النجوم ولكن أيضًا ما كانت عليه.

كان التحليل الطيفي الفلكي نتيجة لمحاولات الكيميائيين لتحليل المواد الموجودة على الأرض ونتيجة لاهتمام العلماء بطبيعة اللون.

كانت هناك بعض الغارات المبكرة في التحليل الطيفي قبل عام 1850 م، فعلى سبيل المثال، قام جوزيف فراونهوفر بتركيب منشور (prism) أمام العدسة الموضوعية (objective lens) لمقراب صغير، ليصنع مطيافًا (spectroscope) خامًا.

ووجد أنه عندما يتم تحليل ضوء الشمس والنجوم الساطعة مثل الشِّعرَى اليَمَانِيَّة (Sirius)، كانت هناك خطوط امتصاص مميزة موجودة في الطيف الناتج، لكن فراونهوفر مات قبل أن يتمكن من دراسة هذه الظاهرة بشكل كامل.

منظر 10: طيف فراونهوفر للشمس، مع خطوط داكنةتمثل توقيعات العناصر الكيميائية المعروفة.
يوضح المنحنى أعلاه السطوع الكلي [المصدر].

تم إحراز تقدم كبير في عام 1859 م على يد جوستاف كيرشوف وروبرت بنسن، فقد كان تطوير بنسن لموقد غاز قوي أمرًا ضروريًا للبحث الذي أجروه في هايدلبرغ بألمانيا.

في عام 1859 م، أبلغ بنسن أحد زملائه أن كيرشوف قد حقق “اكتشافًا غير متوقع على الإطلاق”، فقد حدد سبب الخطوط الداكنة التي شوهدت في الأطياف الشمسية بواسطة فراونهوفر وآخرين، عندما تم تسخين بعض المواد الكيميائية في موقد بنسن.

في بعض الحالات، كانت هذه الخطوط تمامًا مثل خطوط فراونهوفر الداكنة، وكانت الخطوط الساطعة نتيجة امتصاص الضوء من قبل غاز ساخن، في حين ظهرت الخطوط الداكنة نتيجة امتصاص الضوء من قبل الغاز البارد الموجود فوق سطح الشمس.

ووجد العالمان أن كل عنصر كيميائي ينتج طيفًا فريدًا، وهذا يوفر نوعًا من “البصمة (fingerprint)” التي يمكنها تأكيد وجود تلك المادة الكيميائية.

أدرك كيرشوف وبنسن أن هذا قد يكون أداة قوية لـ “تحديد التركيب الكيميائي للشمس والنجوم الثابتة”.

طوال ستينيات القرن التاسع عشر، تمكن كيرشوف من التعرف على حوالي 16 عنصرًا كيميائيًا مختلفًا من بين مئات الخطوط التي سجلها في طيف الشمس، ومن تلك البيانات، تكهن كيرشوف بالتركيب الكيميائي للشمس بالإضافة إلى بنيتها.

وكما قال عالم الفلك وارن دي لا رو: “ولو ذهبنا إلى الشمس، وأحضرنا بعض أجزاء منها وقمنا بتحليلها في مختبراتنا، فلن نتمكن من فحصها بدقة أكبر مما نستطيع بواسطة هذا الأسلوب الجديد لتحليل الطيف”.

تصوير الكون

خلال النصف الأخير من القرن التاسع عشر، أصبح التصوير الفوتوغرافي أداة مقبولة لتسجيل الصور والمعلومات التي تنتجها المقاريب وأجهزة قياس الطيف.

في عام 1840 م، التقط الكيميائي الأمريكي البريطاني جي دبليو دريبر أول صورة ناجحة لجسم فلكي، وهو قمر الأرض.

كانت هذه عملية تصوير فوتوغرافي مبكرة تم فيها إنتاج الصورة على لوح فضي حساس لليود وتم تحميضه (developed) ببخار الزئبق، وهو ما يسمى العملية الدّاجِيرِيّة (daguerreotype process).

شهدت أربعينيات القرن التاسع عشر سلسلة من “الأوائل” في التصوير الفلكي: إلى جانب أول صورة للقمر، أول كسوف للشمس عام 1842 م، أول طيف شمسي عام 1843 م، وأول صور للشمس عام 1845.

في هذا الوقت، قدم علماء الفلك الهواة مساهمات قيمة في تطوير وقبول التصوير الفلكي كأداة بحث، حيث تم بناء أول مقراب أمريكي مصمم خصيصًا للتصوير الفلكي على يد لويس إم رذرفورد، وهو عالم فلك هاوٍ، وكان هذا الكاسر مقاس 11 بوصة موجودًا في حديقة منزله في عام 1856 م.

وبعد ذلك بفترة وجيزة بدأ هنري دريبر، وهو عالم هاو آخر في نيويورك، حملة لتحسين المقراب الفوتوغرافي ودمجه مع التحليل الطيفي النجمي، ففي عام 1872 م التَقط صورة لنجم النَّسر الوَاقع (Alpha Lyrae)، وهو خامس ألمع نجم في السماء، وكانت أول صورة تظهر خطوط الامتصاص الطيفي لنجم.

وبعد عقد من الزمن، اكتشف خطوط الانبعاث في طيف سديم الجبار (Orion Nebula)، والتي تم تسجيلها في تعريض ضوئي باستخدام العاكس مقاس 28 بوصة الخاص به، والتي استغرق تسجيلها 137 دقيقة.

بشكل عام، ظلت المقاريب العاكسة الفوتوغرافية الكبيرة مثل عاكس دريبر مجالًا لهواة الفلك الجادين، بينما ظلت الأداة المفضلة لعلماء الفلك المحترفين هي المقراب الكاسر.

منظر 11: الصورة الأولى لسديم الجبار، والتي التقطها البروفيسور هنري دريبر عام 1880 م.
النجوم الكبيرة تظهر أكثر سطوعًا من السديم [المصدر].

في حين بدا أن التحليل الطيفي أداة واعدة لعلم الفيزياء الفلكية الجديد، إلا أن الباحثين كانوا محدودين بمعداتهم، حيث استخدمت أجهزة قياس الطيف المبكرة، مثل تلك التي استخدمها هنري دريبر، المنشورات الزجاجية لتشتيت الضوء.

على الرغم من بساطته من حيث المبدأ، إلا أن أجهزة قياس الطيف المنشوري يمكن أن تكون ذات دقة منخفضة، وكان من الصعب في كثير من الأحيان العثور على منشور ذي جودة بصرية كافية.

كان التصميم البديل هو استخدام مُحَزِّز الحيود أو شبكة الانعراج (diffraction grating) لتشتيت الضوء الذي يجمعه المقراب، وهو سطح تُخطط عليه خطوط دقيقة جدًا ومتباعدة بشكل متساوٍ.

كان هنري أ. رولاند، وهو عالم فيزياء أمريكي في جامعة جونز هوبكنز، المسؤول الأساسي عن صنع شبكات (gratings) الحيود الأكبر حجمًا والأكثر دقة والتي أحدثت ثورة في التحليل الطيفي في ثمانينيات القرن التاسع عشر.

كانت الشبكات الحالية ذات نوعية رديئة؛ لأنه كان من المستحيل الحصول على مسافات موحدة بين الخطوط، فكان حل رولاند عبارة عن برغي دقيق للغاية لتحريك الجهاز الذي قام بنقش الخطوط على الشبكة.

طور رولاند أيضًا تقنية لصنع شبكات مقعرة كرويًا، والتي سمحت بتركيز الأطياف مباشرة على لوحة التصوير الفوتوغرافي، مما يجعل التحليل الطيفي أكثر بساطة.

جهاز جديد آخر دخل حيز الاستخدام، في نفس الوقت تقريبًا تم فيه استخدام شبكات رولاند، هو مخطاط الطيف الضوئي (Spectroheliograph)، والذي أعطى صورة لوجه الشمس بالكامل في طول موجة واحد من الضوء.

وقد فتح هذا مجالًا جديدًا تمامًا لأبحاث الطاقة الشمسية ومكّن الباحثين من استكشاف ميزات الشمس بعمق أكبر.

في حين يُنسب اختراعها عمومًا إلى جورج إليري هيل في عام 1889 م، إلا أن الإصدارات السابقة من الأداة كانت موجودة منذ عام 1870 م.

ومع تطور تصنيع المقاريب، إلا أن أقصى حد عملي للمقراب الكاسر كان 1 متر (40 بوصة)، ولذلك كان أكثر مراصد الأبحاث التي بنيت منذ القرن العشرين هي مراصد ذات مقاريب عاكسة.

وفي القرن العشرين تطورت المقاريب لتشمل أطوال موجية واسعة (غير مرئية) كالراديوية حيث وضع أول مقراب راديوي قيد العمل في سنة 1937 م، كما شملت أشعة جاما، الأشعة السينية، فوق البنفسجية، وتحت الحمراء.

منظر ١٢: مقراب أرِسيبو الراديوي [المصدر].

ولادة العاكس

أظهرت المقاريب الكاسرة بقايا انحرافات بصرية، في حين أن الأطوال البؤرية الأقصر للعاكس تعني أن هذه المقاريب يمكن أن تحتوي على أنابيب أقصر ومغطاة بقباب أصغر، مما يجعلها أقل تكلفة في البناء.

ومع ذلك، في مطلع القرن العشرين، كان علماء الفلك لا يزالون يختلفون حول تصميم المقراب الأفضل، فقد جادل البعض بأن المقاريب العاكسة العملاقة كانت غير ملائمة وغير دقيقة، وأشاروا إلى التشوهات الحرارية الناجمة عن التغيرات في درجات الحرارة ليلا في المرصد.

لعدة سنوات، كان الكثيرون لا يزالون ينظرون إلى المقراب الكاسر باعتباره الأداة الأولى لعالم الفلك المحترف، بينما كان علماء الفلك الهواة قاموا بتجربة العاكس.

مع تحسين تقنيات ووضع طبقات معدنية عاكسة على المرايا الزجاجية، وزيادة قدرة الفنيين في شركات الزجاج على صنع مرايا مصمتة كبيرة جدًا، بحلول عام 1920 م، حل المقراب العاكس العملاق محل المقراب الكاسر – باستثناء بعض الوظائف المتخصصة – باعتباره جهاز المهام الشاقة لعالم الفلك.

كما فعل في العديد من مجالات علم الفلك، كان لجورج إليري هيل القوة الرئيسية وراء قبول المقراب العاكس كأداة صالحة للفيزياء الفلكية الحديثة.

حتى عندما كان يشرف على تركيب أكبر مقراب كاسر في العالم – الشهير ذو مقاس ال 40 بوصة في يركس (Yerkes) – كان هيل يدافع عن فائدة المقاريب العاكسة لأبحاث الفيزياء الفلكية ويوضح قيمتها للبحث الطيفي وأغراض التصوير الفوتوغرافي.

منظر 1٣: كاسر مرصد يركس مقاس ٤٠ بوصة [المصدر].

ساعده في مساعيه جورج دبليو ريتشي، وهو طبيب عيون شاب وظفه هيل في عام 1896 م.

كان ريتشي، الذي يسعى إلى الكمال بطبيعته، قد صنع بالفعل العديد من المقاريب العاكسة ذات الحجم المتواضع وكان يدرك قيمتها في التصوير الفلكي.

بأمواله الخاصة، صنع ريتشي مرآة زجاجية فضية مقاس 24 بوصة تم تركيبها لاحقًا في أنبوب من أنابيب الفولاذ والألمنيوم.

وكانت الصور الملتقطة بهذه الأداة ذات جودة عالية وأظهرت أن وجود عاكس جيد في أيدي مستخدم ماهر يمكن أن يكون قويًا من الناحية العلمية، كما ألهم نجاحها هيل بالتفكير في بناء نسخة أكبر منها.

في صيف عام 1903 م، وبتشجيع من التقارير التي سمعها، قام هيل بزيارة جبل ويلسون، الذي يبلغ ارتفاعه 5700 قدم، حيث شجعته إمكانيات الموقع على قمة الجبل فبدأ في وضع خطط لما سيصبح مرصد جبل ويلسون.

وسرعان ما أقنع هيل مؤسسة كارنيجي (Carnegie Institution) بالتبرع بأموال لبناء ما سيصبح أكبر مقراب عاكس في العالم.

تميز التصميم بمرآة مقاس 60 بوصة تم تصميمها وتصنيعها بواسطة شركة ريتشي، مهدت تصرفات هيل الطريق لما سيصبح موضوعًا لمسيرته العلمية، وهو السعي وراء مقاريب أكبر من أي وقت مضى.

شهد المقراب مقاس 60 بوصة ضوءه الأول في ديسمبر 1908 م، وبحلول عام 1909 م، حقق نجاحًا كبيرًا لدرجة أنه لم يكن هناك شك في أذهان علماء الفلك في أن المقاريب العاكسة الكبيرة ستكون الأدوات العلمية للمستقبل.

منظر 1٤: مقراب ال 60 بوصة بمرصد جبل ويلسون [المصدر].

حتى قبل تنفيذ الـ 60 بوصة كان هيل يسعى لتحقيق أهداف أكبر، ففي عام 1906 م أقنع جي دي هوكر وهو تاجر ثري في لوس أنجلوس، بالتبرع بمبلغ 45 ألف دولار (وهذا المبلغ يعادل ما يقارب 35 ضعف المبلغ بالدولار الحديث) كأموال أولية لصب وصقل مرآة مقاس 100 بوصة.

لم يكن الحصول على قرص زجاجي عالي الجودة ليكون بمثابة مرآة مصمتة لأكبر مقراب في العالم أمرًا سهلاً، فقد فشلت الجهود الأولى لمصانع سانت جوبان للزجاج في فرنسا، وبدأ هيل وريتشي في اليأس من الحصول على المواد الخام المناسبة.

كان القرص الزجاجي مقاس 100 بوصة الذي تم إرساله من فرنسا إلى باسادينا في أواخر عام 1908 مليئًا بفقاعات صغيرة، ولكن على الرغم من اعتراضات ريتشي، أقنع هيل طبيب البصريات العنيد بالبدء في صقله وتلميعه.

كان صقل مرآة يصل حجمها إلى 100 بوصة تحديًا كبيرًا لريتشي، فقد كان لا بد من إزالة الغبار الموجود في متجر البصريات من خلال مرشحات الهواء، ولم يكن من الممكن اختبار المرآة خلال أشهر الشتاء بسبب تغيرات درجات الحرارة في الغرفة.

التأخير الناجم عن دخول الولايات المتحدة في الحرب العالمية الأولى أعاق استكمال المقراب، ولم يتسلم المقراب القائم على جبل ويلسون المرآة العملاقة حتى يوليو 1917 م.

وفقًا للجدول الزمني، كان المقراب مقاس 100 بوصة قيد الاستخدام المنتظم بحلول عام 1919 م.

وكان لاكتماله تكلفة أخرى، فقد كان للتأخير والضغط الناتج عن بناء المقراب أثر كبير على صحة هيل، وأسفرت الخلافات بينه وبين جورج ريتشي، بعد الانتهاء من عرض الـ 100 بوصة، عن طرد طبيب البصريات الصارم والحذر للغاية.

لكن ريتشي لم يتوقف عن تطوير تصميمات لمقاريب أكبر، ففي عام 1924، انتقل إلى فرنسا وبدأ سلسلة من التجارب لبناء مرايا عملاقة.

وفي الوقت نفسه، بالعودة إلى جبل ويلسون، يمكن لـ 100 بوصة جمع ما يقرُب من ثلاثة أضعاف الضوء الذي تَجمعه 60 بوصة، مما مكن علماء الفلك مثل إدوين هابل (والذي سمي مقراب هابل الفضائي على اسمه تكريما لأبحاثة وأعماله) وفالتر بادي من إحداث تغييرات ثورية في علم الكونيات في العقود اللاحقة.

كان هيل يتخيل باستمرار مقاريب أكبر، حتى أنه في عام 1928، كتب مقالًا مؤثرًا في مجلة هاربر الشهرية بعنوان “إمكانات المقاريب الكبيرة”. بعد سرد النجاحات التي شهدها مع المقاريب مقاس 60 بوصة و100 بوصة في جبل ويلسون، أوضح هيل الإمكانيات العلمية للمقاريب ذات المرايا الأكبر.

قدمت مقالة هيل الأساس لمحادثات مع ويكليف روز، رئيس المنظمات الخيرية المرتبطة بمؤسسة روكفلر.

أتى هذا التبشير بثماره في خريف عام 1928 عندما قدم مجلس التعليم الدولي (International Education Board)، وهو منظمة مرتبطة بمؤسسة روكفلر، مبلغ 6 ملايين دولار لمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا لبناء مقراب بحجم 200 بوصة، وفي ذلك الوقت، كانت هذه أكبر مساهمة على الإطلاق لمؤسسة علمية.

كان على المهندسين والعلماء الذين قاموا ببناء مقراب 200 بوصة التغلب على العديد من التحديات، وكان أخطر هذه التحديات هو تأمين مرآة زجاجية مصمتة بحجم كافٍ.

بعد محاولات فاشلة من قبل شركة جنرال إلكتريك لصنع مرآة من الكوارتز المنصهر – في عملية استغرقت ثلاث سنوات – أنهى هيل التجربة، وتحول المشروع بدلاً من ذلك إلى الحصول على قرص زجاجي مصنوع من البيركس (pyrex) المصبوب من شركة كورنينغ للزجاج (Corning Glassworks) في نيويورك، وحتى هذه كانت عملية محفوفة بالمخاطر وعدم اليقين.

لم تكن كورنينج قادرة على إنتاج قرص مثالي بحجم 200 بوصة حتى ديسمبر 1934 م، حين أثارت عملية الصب اهتمامًا عامًا هائلاً، والذي استمر عندما تمت تعبئة قطعة الزجاج الضخمة وشحنها بالقطار إلى باسادينا (مدينة بكاليفورنيا) في العام التالي لصقلها.

منظر 1٥: لقد دفع صب وتلميع المرآة مقاس 200 بوصة فنيي شركة كورنينغ للزجاج إلى أقصى حدود قدراتهم [المصدر].

وفي عام 1934 م، وبعد دراسة مستفيضة، تم اختيار موقع جبل بالومار (palomar) في جنوب كاليفورنيا ليكون موقعًا لـ 200 بوصة.

توفي هيل نفسه في عام 1938 م، وأُجل إكمال المرآة مقاس 200 بوصة بسبب الحرب العالمية الثانية والصعوبات الفنية المرتبطة بإنهاء مرآتها الضخمة.

لم يتم نقل المرآة المصقولة إلى قمة بالومار حتى نوفمبر 1947 م، وبعد أقل من عام، أطلق على المقراب اسم هيل تكريما له.

رأى المقراب 200 بوصة أول ضوء في 26 يناير 1949 م، تحت إشراف عالم الفلك الأمريكي إدوين باول هابل، مستهدفًا ما عرف بسديم هابل المتغير (Hubble’s Variable Nebula)، بعد أن درسه سابقًا في مرصدي يركس وجبل ويلسون.

منظر 1٦: مقراب هيل ال 200 بوصة [المصدر].

تمكن هابل من تحقيق اكتشافين مهمين بفضل مقراب جبل ويلسون:

أولاً، ما كان يسمى آنذاك “السدم الحلزونية” والتي كانت في الواقع أجسامًا بعيدة ومتميزة منفصلة عن مجرتنا، درب التبانة.

الاكتشاف الثاني هو أن الكون نفسه يتوسع، حيث تبتعد العديد من المجرات عن مجرتنا.

اُكتشف توسع الكون في عام 1929 م باستخدام عدد قليل من البيانات، وكانت هناك حاجة إلى مقراب أكبر لقياس المسافات في الفضاء، فمن شأن هذه القياسات المساعدة في تعزيز فكرة الكون المتوسع وتحديد المصير النهائي للكون، هل سيتوسع إلى الأبد أم سينكمش مرة أخرى على نفسه؟

بعد مرور عشرين عامًا على اكتشاف هابل، كان بالتأكيد متعطشًا لمزيد من البيانات، فقد كان مستعدًا لبدء المرحلة التالية من عمله في بالومار.

من نواحٍ عديدة، أصبح مقراب هيل النموذج الأصلي لمقراب الأبحاث الحديث؛ بفضل مرآته الأساسية العملاقة، وحجرة المراقبة حيث يمكن لعالم الفلك الجلوس وجمع البيانات، ونظام الجملون (truss) المتطور – هيكل هندسي لدعم الأوزان – للحفاظ على محاذاة المرايا الأساسية والثانوية.

ظل المقراب 200 بوصة أكبر مقراب في الولايات المتحدة لأكثر من أربعين عامًا.

اكتشافات هامة تمت عن طريق المقاريب

تم رصد العديد من الاكتشافات عن طريق المقاريب الأرضية والفضائية، ولكن الاكتشافات الناتجة عن الفضائية أكبر بكثير من الأرضية لعدة عوامل معيقة مثل: مناخ الأرض، والذي يعيق وصول بعض الضوء للمقراب، على عكس الفضائي حيث لا يوجد غبار أو سحب قد تعوقه.

وأيضا مقاريب الفضاء لا تعتمد فقط على موجات الضوء، بل تستخدم مدى أوسع من الموجات الكهرومغناطايسية، كالأشعة فوق البنفسجية، والأشعة السينية، والتي تُ من قبل الغلاف الجوي لكوكب الأرض.

منظر 1٧: مقراب جيمس ويب الفضائي.

وفيما يلي بعض من مساهماتها الرئيسية في العلوم، وخصوصًا مقراب هابل وجيمس ويب، كونهما أشهر مقرابين فضائيين:

  • المساعدة في تحديد عمر الكون المعروف الآن بأنه 13.8 مليار سنة.
  • المساعدة في تحديد المعدل الذي يتوسع به الكون.
  • أن كل المجرات الكبرى تقريبًا ترتكز على ثقب أسود في مركزها.
  • إنشاء خريطة ثلاثية الأبعاد للمادة المظلمة.
  • العثور على الكربون، وهو من المكونات الأساسية للحياة، حيث وجد في مجرة موجودة بعد مليار سنة فقط من الانفجار العظيم (big bang).
  • مشاهدة انفجار مستعر أعظم (supernova).
منظر 1٨: صورة مقراب هابل الفضائي لسديم السرطان، وهو عبارة عن بقايا، يبلغ عرضها ست سنوات ضوئية، من انفجار نجم مستعر أعظم آخذة في التمدد [المصدر].

الخاتمة

ولا تزال الاكتشافات الكونية والصورة البعيدة في أعماق الفضاء البعيد تأتي إلينا تبعًا لتطوير والتحديث المستمر في هذه الادة العجيب.

المصادر

  1. سلسلة طبيعة الكون الجزء السادس: التلسكوبات والأمواج الكهرومغناطيسية. أطلع عليها بتاريخ ٥/١/٢٠٢٤
  2. cosmic journey: a history of scientific cosmology. أطلع عليها بتاريخ ٦/١/٢٠٢٤
  3. مراحل تطور التلسكوب. أطلع عليها بتاريخ ٦/١/٢٠٢٤
  4. January 26: 60th Anniversary of Hale Telescope “First Light”. أطلع عليه بتاريخ ٦/١/٢٠٢٤
  5. Space Telescopes. أطلع عليها بتاريخ ٦/١/٢٠٢٤
  6. What has the Hubble Space Telescope discovered? أطلع عليها بتاريخ ٦/١/٢٠٢٤
  7. These Are the James Webb Space Telescope’s 9 Most Scientifically Glorious Discoveries of 2023. أطلع عليها بتاريخ ٦/١/٢٠٢٤
  8. https://www.in2013dollars.com/us/inflation/1904?amount=1

اترك تعليقاً

انتقل إلى أعلى