رحلة التلسكوب

رحلة التلسكوب من الاختراع إلى إشراقاته الكونية

إلى أي مدى يمكنك أن ترى السماء بعينيك المجردة؟

قد ترى القمر واضحًا جليًا في ليلة مكتملة البدر وإذا كان نظرك حادًا بما فيه الكفاية قد ترى الهلال والنجوم المعروفة وكذلك المجموعات النجمية المعروفة مثل الجوزاء والسرطان وغيرها.

ولكن ورغم جمال منظر السماء الصافية براقة النجوم، إلا أننا نحن البشر كنا ولازلنا نجهل الكثير عن هذه الأجسام المشعة البعيدة، ولأن الرغبة في معرفة ماهية الأشياء الغريبة تؤدي بدورها إلى ابتكار طرق ونظريات تشرحها وتوضحها.

فقد أُنشأ المقراب الذي نتج عن امتزاج المهن الحرفية التقليدية والابتكار التقني والتطورات في علم البصريات التي ترجع إلى روجر بيكون وسلسلة من العلماء المسلمين، ولا سيما الكندي، ابن سهل وابن الهيثم، فما هو المقراب؟

ما هو المقراب (التلسكوب)؟

المقراب هو جهاز بسيط يهدف إلى تعزيز الرؤية عبر استخدام العدسات والمرايا، مما يجعل الأشياء البعيدة تبدو أقرب؛ وهذا ما يجعلها مفيدة جدًا ومتعددة الاستخدامات في البر والبحر.

منظر1: مقراب موجه نحو السماء.

آلية عمل المقراب بأنواعه

تقوم الفكرة الرئيسة لعمل المقراب على تجميع الضوء وتركيزه من خلال مجموعة متعددة من العدسات والمرايا والتي تسمح بمشاهدة صورة مكبرة للأجسام البعيدة.

تُوجد ثلاثة أنواع من المقربات:

  1. المقاريب الانكسارية (refractors)
  2. المقاريب العاكسة (reflectors)
  3. المقاريب الانعكاسية الانكسارية (Catadioptric).

المقاريب الانكسارية (refractors)

تستخدم المقاريب الانكسارية العدسات لتجميع وتركيز الضوء إلى نقطة تسمى البؤرة، وهي تعمل على مبدأ الانكسار حيث ينحني الضوء عندما يمر عبر أوساط مختلفة مثل الزجاج.

تُستخدم في المقاريب العاكسة مرآة عوضا عن العدسات، وفي التلسكوبات الانعكاسية الانكسارية عدسة تسمى لوحة تصحيح correcting) plate) ومرآة.

يبين الشكل التالي التصاميم البصرية الأساسية للتلسكوبات الثلاثة:

منظر 2: التصاميم البصرية الأساسية للمقاريب الثلاثة [المصدر].

استخدام المقاريب

تطور المقراب كأداة علمية رئيسية غيرت نظرتنا للعالم بشكل عام وعلم الفلك بشكل خاص، ولذلك فمن الطبيعي أن تجد المقاريب موطنًا لها في المراصد في جميع أنحاء العالم، على الرغم من تصنيع معظم المقاريب للاستخدام اليومي في البحر وعلى الأرض.

اختراع المقراب

في عام 1608 م أعلن صانع النظارات الهولنديهانز ليبرهي وزكرياس يانسن وجاكوب ميتيوس عن أداة رؤية جديدة تعتمد على العدسات، والتي جعلت الأشياء البعيدة تبدو أقرب بكثير؛ وهذا هو أول دليل لدينا على اختراع المقراب، كأول أداة علمية لتوسيع مجال إحدى حواس الإنسان.

ملاحظات غاليليو عن المقرب واكتشافاته

بعد سماعه عما كشفه ليبرهي في هولندا صنع غاليليو مقرابه الخاص، وقام بعد ذلك بعرض المقراب في البندقية، والذي أكسبه منصب محاضر مدى الحياة.

منظر 3: أحد مقاريب غاليليو [المصدر].

بعد نجاحه الأولي، ركز غاليليو على تحسين الآلة، فقد قام المقراب الأولي الذي ابتكره (والمقراب الهولندي الذي استند إليه) بتكبير الأجسام بثلاثة أقطار (diameters)، أي أنها جعلت الأشياء تبدو أكبر بثلاث مرات مما تبدو عليه بالعين المجردة، ومن خلال تحسين تصميم المقراب طور أداة يمكنها التكبير ثماني مرات، وفي النهاية ثلاثين مرة.

بعد وقت قصير من ملاحظاته المقرابية الأولى للسماء، أراد غاليليو عرض النتائج التي توصل إليها، ولذلك في عام 1610 م نشر غاليليو النتائج الأولية لملاحظاته المقرابية في كتابه “رسالة فلكية (Sidereus Nuncius)”، وسرعان ما نُقلت هذه الأطروحة الفلكية القصيرة إلى أركان المجتمع المثقف، وأصبح غاليليو معروفًا بسبب تلك النتائج، والتي شملت:

  • أن قمر الأرض لم يكن كرويًا.
  • تضاريس القمر وتشابهها في التكوين الجيولوجي مع الأرض.
  • أقمار المشتري الأربعة.
  • وأن الشمس هي مركز الكون وليست الأرض.

القمر ليس كرويا

نظرًا لتدريب غاليليو على فن عصر النهضة، وفهمه للكياروسكورو (chiaroscuro), وهو مصطلح فني يشير إلى التدرج بين الضوء والظلام، فقد فهم سريعًا أن الظلال التي كان يراها كانت في الواقع جبالًا وحفرًا ومن رسوماته.

أشار هذا بوضوح إلى أن فكرة أرسطو عن القمر باعتباره كرة مثالية شفافة (أو كما اقترح دانتي (شاعر إيطالي من فلورنسا) “لؤلؤة أبدية” كانت خاطئة.

لم يعد القمر جسمًا سماويًا مثاليًا؛ فمن الواضح تمتُعه بميزات وطوبولوجيا مشابهة للأرض من نواحٍ عديدة، وقد أدت هذه الفكرة إلى تكهنات حول شكل الحياة على القمر.

على الرغم من أن غاليليو أصبح مشهورًا بهذه الاكتشافات (تمت طباعة وبيع أكثر من 500 نسخة من “رسالة فلكية”)، إلا أن عالم الفلك الإنجليزي توماس هاريوت هو أول من رسم القمر من ملاحظاته بالمقراب في 26 يوليو 1609 م.

لاحظ هاريوت القمر أولًا، وتضمنت الخرائط التي أنشأها مزيدًا من المعلومات، لكنه لم يوزع عمله على نطاق واسع (عكس غاليليو)، فقد كانت رسومات هاريوت أكثر خرائطية من رسومات غاليليو، حيث حددت الفرق في الضوء والظل كما يمكن لخريطة الأرض تحديد الماء والأرض.

منظر 4: في “رسالة فلكية” شارك غاليليو رسومات تفصيلية لمراحل القمر المختلفة، وقد قدم التكبير الجلي للمقراب دليلا على الطبيعة الصخرية للقمر [المصدر].

المشتري له أقماره الخاصة

عندما أدار غاليليو مقرابه لمراقبة كوكب المشتري، رأى ما كان يعتقد في البداية أنه ثلاثة نجوم ثابتة لم تُرصد من قبل، وبعد الملاحظات المستمرة أصبح من الواضح أنها لم تكن ثابتة.

وفي غضون أيام توصل إلى استنتاج مفاده أن هذه النجوم الجديدة كانت في الواقع تدور حول كوكب المشتري، وكان قد اكتشف ثلاثة من أكبر أقمار كوكب المشتري.

كانت الآثار المترتبة على هذا الاكتشاف، للأجسام التي تدور حول كوكب ما، جزءًا مما دفع غاليليو إلى الجدال حول مركزية الشمس، وقد واجهت أقمار المشتري حجة رئيسية ضد دوران الأرض حول الشمس.

تسائل منتقدو كون كوبرنيكوس (Copernicus) المتمحور حول الشمس، كيف يمكن للأرض أن تسحب القمر عبر السماء؟ (يُذكر أن فكرة الآلية الأساسية للجاذبية لم تظهر حتى صدور مبادئ الرياضيات لنيوتن في عام 1687 م)، مما يجعل هذا سؤالًا معقولًا ومهمًا.

نظرًا لوجود اتفاق واسع النطاق على أن المشتري كان في حالة حركة بالفعل، فإن حقيقة أن المشتري كان له أقماره الخاصة بشكل واضح تقدم دحضًا واضحًا لانتقادات نظام مركزية الشمس.

في “عالَم المشتري (Mundus Jovialis)”، والذي نُشر عام 1614 م، ادعى سيمون ماريوس أنه هو أول من اكتشف أقمار المشتري، ففي عصره أُدين ماريوس علنًا باعتباره منتحلً بينما كان غاليليو قد نشر نتائجه بالفعل في عام 1610 م، وكان معروفًا وقويًا في بلاط عصر النهضة.

فقط في القرن التاسع عشر، عاد المؤرخون لفحص الأدلة ليتضح أن ماريوس لم يسرق غاليليو فملاحظاته كانت مختلفة؛ في الواقع، كان قد رسم مخططات أكثر دقة لمدارات أقمار المشتري.

منظر 5: يعرض غاليليو سلسلة من ملاحظاته لأقمار المشتري (الدائرة الأكبر)، والأجسام في مداره خلال الليالي المتتابعة، ويظهر التسلسل حركة واختفاء بعض الأقمار أثناء تحركها خلف كوكب المشتري [المصدر].

شمس دوارة مرقطة

أثناء مراقبته للشمس، رأى غاليليو سلسلة من “العيوب”. لقد اكتشف البقع الشمسية ورصد هذه البقع على الشمس أثبت أن الشمس في الواقع تدور.

علاوة على ذلك، أشارت الملاحظات اللاحقة التي أجراها فرانشيسكو سيزي في عام 1612 م إلى أن البقع الموجودة على الشمس تغيرت بالفعل بمرور الوقت.

كما تمت ملاحظة هذه البقع الشمسية بشكل مستقل من قبل الفلكي كريستوف شاينر ونشر نتائجه في عام 1612 م، وعلى مدار حياتهم المهنية، اختلف غاليليو وشاينر حول من يجب أن يحصل على الفضل في هذا الاكتشاف.

دون علم أي منهما، كان توماس هاريوت قد لاحظ البقع في عام 1610 م، هو والألماني ديفيد فابريسيوس وابنه يوهانس كانو قد تفوقوا على كل من شاينر وغاليليو في نشر الاكتشاف من خلال كتابهما “رواية رصد البقع على الشمس ودورانها الظاهري مع الشمس (De Maculis in sole observatis et apparente earum cum Sole conversione, Narratio)” في يونيو من عام 1611 م.

وبالرغم من ذلك لم يتم تداول منشوراتهم على نطاق واسع، وبالتالي ظلت غامضة في عصرها.
بعيدا عن الجانب الغربي للعلوم، قد لاحظ علماء الفلك الصينيون البقع الشمسية منذ فترة طويلة، ويرجع ذلك إلى عام 165 قبل الميلاد على الأقل.

منظر 6: رسم غاليليو للشمس، لاحظ البقع الموجودة عليها، في عصره، كان يُعتقد على نطاق واسع أن الشمس كانت كرة كاملة، ولكن من الواضح أنها تحتوي على بقع، بالإضافة إلى ذلك، ومن خلال مراقبة البقع مع مرور الوقت، أصبح من الواضح أن الشمس كانت تدور بالفعل [المصدر].

الخاتمة

حقق علم الفلك البصري التقليدي تقدمًا كبيرًا من خلال تجاوز الغلاف الجوي، وتستمر الملاحظات الصادرة عن الأجهزة العديدة التي تشير إلى السماء اليوم في الضغط على المنظرين (theorists) لمراجعة وتحسين أفكارهم حول أصول كوننا وطبيعته ومصيره.

المصادر

  1. The history of the telescope. أطلع عليها بتاريخ ٥/١/٢٠٢٤
  2. Finding Our Place in the Cosmos: From Galileo to Sagan and Beyond. أطلع عليها بتاريخ ٥/١/٢٠٢٤
  3. Who invented the telescope? أطلع عليها بتاريخ ١٨/١/٢٠٢٤
  4. سلسلة طبيعة الكون الجزء السادس: التلسكوبات والأمواج الكهرومغناطيسية. أطلع عليها بتاريخ ٥/١/٢٠٢٤
  5. cosmic journey: a history of scientific cosmology. أطلع عليها بتاريخ ٦/١/٢٠٢٤

اترك تعليقاً

انتقل إلى أعلى