يُغير البشر كوكب الأرض بسرعة كبيرة حتى أنهم يقومون حالياً بإعادة تشكيل الأرض كلياً.
الأمر أصبح ملحوظاً لدرجة أن العديد من العلماء يشيرون إلى أن الفترة التي نعيشها الآن تُسمى بحقبة الإنسان أو “الإنثروبوسين“.
من أصغر بكتيريا إلى أطول شجرة، تُساهم كل أشكال الحياة على سطح الأرض في التغيرات الكيميائية والفيزيائية التي جعلت كوكبنا على ما هو عليه اليوم، ومع ذلك فقد هيمنت نوع واحد من المخلوقات وهُم البشر.
أهمية الصخور التاريخية
تاريخ الأرض مكتوب في صخورها، ومع مرور الوقت، تتراكم الطبقات الجديدة فوق الطبقات القديمة تماماً مثل صفحات الكتاب، كما تسجل كُل طبقه من الصخور جميع الأحداث التي شكلت كوكبنا.
تُسجل الصخور الأحداث الجيولوجية المُختلفة مثل تطور النباتات والحيوانات والكائنات الحية الأخرى التي عاشت في الجوار، حيث تحمل الصخور الكثير من الأحافير الشاهدة على مناخ الأرض مُنذ نشأتها.
ولكن نأخذ في الاعتبار بأن السجل الجيولوجي ليس مرتباً ولا كاملاً، بل إنه أشبه بمذكرات ممزقة بقيت منها بضع صفحات فقط.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن العديد منها قد دُمر بسبب التعرية واصطدام الصفائح التكتونية واضطراب الجبال مسببة الزلازل والبراكين.
يُخبرنا السجل الصخري المُتبقي تقريباً بكل شيء نعرفه عن الأرض طوال 4 مليار سنة ماضية، كما يُسمي الجيولوجيون هذا السجل الكبير بالزمن الجيولوجي للأرض.
ينقسم الزمن الجيولوجي إلى فترات مُتتالية يُمكن قراءتها وتحديد الأحداث والعصور والحقب التاريخية المُختلفة من خلالها.
طاحونة لتهيئة الأرض للبشرية
على مدار تاريخ الأرض، قامت مجموعة من العمليات المختلفة بتشكيل كوكبنا.
اصطدمت الصخور من الفضاء بسطح كوكبنا، وانجرفت القارات، واندلعت البراكين، وتغير خليط الغازات في الغلاف الجوي مراراً وتكراراً، ومعها درجات الحرارة تنتقل من البارد إلى الساخن والعكس.
كما تغيرت الوصفة الكيميائية للبحار، ثم ظهرت الحياة وبدأت تتطور بشكل متزامن مع التغيرات الأرضية المستمرة، والذي يُمكن أن تُطلِق عليها بفترات “إعادة تشكُل الأرض”.
فجر عهدٍ جديد وإعادة تشكُل الأرض
بدءاً من أسلافنا الأوائل وترويضهم للنار، إلى استخدم البشر التكنولوجيا في تغيير الأرض من خلال استخدام العلوم والهندسة، فإن هذا هو ما يُميزنا عن كل الكائنات الحية الأخرى.
نحن كبشر نعمل باستمرار على تعديل الأرض والمحيطات والغلاف الجوي، فتأثيرنا كبير لدرجة أن البعض يعتقد أننا أصبحنا الآن القوة المهيمنة للتغيير على الكوكب.
ووفقاً لذلك، يقترح الجيولوجيين أننا دخلنا حقبة جيولوجية جديدة من صنع البشرية، إذاً مرحباً بكم في عصر الإنسان “الأنثروبوسين“.
الأنثروبوسين “AN-throh-puh-seen” كلمة تجمع بين بعض الكلمات اليونانية التي تُعني الإنسان الجديد.
وذلك لأن تأثيرنا على الكوكب أصبح قابلاً للقياس بشكل خاص مُنذ أواخر القرن التاسع عشر، فقد اُقترح ذلك المُصطلح من أجل وصف كيف ارتقى البشر ليصبحوا القوة المهيمنة على الأرض.
تقبُل تأثير البشرية على الأرض
إذا تم قبول ذلك العصر المُقترح كعصر جديد في التاريخ الجيولوجي، فإن “عصر الأنثروبوسين” سيتبع عصر “الهولوسين” الذي بدأ قبل 11 ألف عام والذي كان بمثابة نهاية العصر الجليدي الأخير.
تأتي العصور الجليدية كل 100 ألف سنة أو نحو ذلك، وتستمر لفترة طويلة، ومع انخفاض درجات الحرارة، يزداد تساقط الثلوج خلال فصل الشتاء في القطب الشمالي.
ومع أول شعاع شمس دافئة في الصيف، تذوب تلك الثلوج مما يتسبب في انخفاض درجات الحرارة أكثر وأكثر.
يمكن بمرور الوقت أن تُغطي كتل الجليد التي يزيد سمكها عن ثلاث كيلومترات مساحات شاسعة من نصف الكرة الشمالي، كما يُمكن أن يستمر هذا الغطاء الجليدي لعشرات الآلاف من السنين قبل أن يؤدي التحول المفاجئ في المناخ إلى ارتفاع درجة حرارة الكوكب مرة أخرى.
فمنذ انحسار الجليد في بداية “الهولوسين”، ظل مناخ الأرض مستقراً إلى حدٍ ما، والذي اُطلق عليه فتره دافئة لطيفة بين العصور الجليدية.
في الواقع، يجب أن نتجه الآن نحو عصر جليدي آخر، وذلك ما يقوله الجيولوجي “جيفورد ميللر“.
يقول ميلر: أنه يصعب تفسير الحُمى المتزايدة لكوكبنا إلا إذا نظرنا إلى الأنشطة البشرية المؤثرة على الأرض.
أنشطة البشر وعصر الأنثروبوسين
تشير الأبحاث التي أجراها ميلر والعديد من العلماء الآخرين، إلى أن الناس يتسببون في توليد الكثير من الحرارة، حيث بدأ تأثير البشرية الفعلي على الأرض منذ عام 1750م والذي يُمثل البداية التقريبية للثورة الصناعية بأوروبا.
بعد ذلك بدأت الشركات في استخراج الموارد المُختلفة بكميات كبيرة من الأرض، ونقل هذ الموارد والسلع الاستهلاكية عبر الكوكب.
وفي بعض الأحيان يقومون بنقل الجبال حرفياً لتقصير المسافات بين الناس واستخراج المعادن، ومن اجل تغذية كل تلك الأنشطة المتلاحقة، بدأ الناس في حرق الفحم والنفط والغاز الطبيعي وأنواع الوقود الأحفوري الأخرى بشكل هائل.
هذه الأنواع من الوقود تطلق الغازات الملوثة لأنها تحترق، بما في ذلك غاز ثاني أكسيد الكربون.
وعلى مدار 250 سنة ماضية، أحرقَ الناس الكثير من الوقود الأحفوري، وإطلاق المزيد من الكربون للغلاف الجوي والملوثات بنسبة أكثر بكثير من أي وقت آخر مضى في تاريخ جنسنا البشري.
يحبس ثاني أكسيد الكربون الحرارة في الغلاف الجوي، وعلى المدى الطويل يتسبب هذا الدفء الزائد في تغيير مناخ الأرض.
يُغير الغاز كيمياء البحار والمحيطات، مما يجعل المياه أكثر حمضية، ولقد أثرت هذه التغييرات معاً على الكائنات الحية المتواجدة على الأرض وفي الماء.
يعتقد ميلر أن هذه التغييرات سوف تترك بصمة كبيره في السجلات الصخرية للأرض، وهذا يعني أننا بالفعل قد دخلنا عصر الأنثروبوسين.
أعلى طبقات الجو إلى أعمق أعماق المحيط
في أحد مُختبرات جامعة كولورادو، يُحلل العلماء عينات الهواء التي تم جمعها من مواقع مُختلفة حول العالم، حيث تُستخدم لمعرفة كيف تتغير كيمياء الغلاف الجوي للأرض.
كل بضعة أيام، تصل قوارير من الهواء إلى المختبر الذي تديره الإدارة الوطنية للولايات المتحدة للمحيطات والغلاف الجوي.
يقود الباحث “كولم سويني“ فريق البحث الذي يقوم بتحليل عينات الهواء، وبصفته خبيراً في الكيمياء الجيولوجية الحيوية، فإنه يدرس التفاعلات بين الكائنات الحية والبيئة التي تعيش فيها.
يُركز فريقه على قياس كمية ثاني أكسيد الكربون في عينات الهواء، حيث هو الغاز الرئيسي الذي يدخل في غازات الاحتباس الحراري.
تلك الغازات ضرورية للحياة على كوكبنا لأن بدونها سيكون متوسط درجات الحرارة في جميع أنحاء العالم سالب 18 درجة مئوية، بدلاً من كونها حالياً 15 درجة مئوية.
ومع ذلك، تمثل الزيادة في الأشياء الجيدة بعض المشاكل، لأن غاز “CO 2” قد ارتفعت مستوياته في الغلاف الجوي بشكل كبير.
- قبل الثورة الصناعية، كان المستوى يقارب 280 جزء في المليون، لكن في بعض الأماكن اليوم يتجاوز 400 جزء في المليون. وهذه زيادة ضخمة بأكثر من 40%.
- يفعل غاز “CO 2“ أكثر من إغلاق الغلاف الجوي، بل يتسبب في ارتفاع درجة حرارة الكوكب وتغير المحيطات، لأن المحيطات أيضاً تمتص كميات كبيرة منه.
- يؤدي ثاني أكسيد الكربون إلى حدوث تغيرات كبيره قادره على أن تمحو بعض الكائنات البحرية برمتها، وسيترك ذلك علامة كبيرة في سجل الصخور وتركنا في ورطة كبيرة.
تقريباً، رُبع غاز ثاني أكسيد الكربون الموجود في الهواء يدخل في نهاية المطاف إلى المحيطات والبحار.
هذا امر جيد، حيث ستقل نسبه الغاز في الغلاف الجوي، ويعني أن درجة حرارة الهواء بالقرب من سطح الأرض سوف ترتفع ببطء أكثر.
ولكن لهذه الميزة تكلفتها العالية، فعندما يذوب “CO 2“ في الماء، فإنه يولد حمض الكربونيك، والكثير من هذا الحمض يسبب مشاكل لحيوانات البحر خاصة تلك التي لها أصداف.
يعمل حمض الكربونيك على تكسير كربونات الكالسيوم الذي يُشكل أصداف العديد من الكائنات البحرية مثل الشعاب المرجانية والمحار كما أنه يدخل في تركيب أصداف كائنات دقيقة وحيدة الخلية مثل “الفورامانيفرا“.
وباعتبار أن “الفورامانيفرا” من الاعبين الأساسيين في التاريخ الجيولوجي، فإن الأمر سيكون له عواقبه العلمية والبيئية.
ومع ذلك، فإن هذه الكائنات الحية مهمة للغاية وذلك لأنها تعيش في قاعدة شبكة الغذاء البحرية.
فعندما تبدأ مياه المحيطات في أن تُصبح أكثر حمضية، فإن هذه الكائنات وغيرها من الكائنات الحية تواجه صعوبة في العثور على المواد التي تحتاجها لبناء أصدافها الواقية.
ولهذا السبب يُشكل تحمض المُحيطات تهديداً خطيراً ومتزايداً، ليس فقط على الكائنات الحية الدقيقة، ولكن على النظام البيئي للمحيط والأرض بأكمله.
الماضي به احتباس حراري أيضاً
قبل 56 مليون عام، تسببت كميات ضخمة من ثاني أكسيد الكربون في إنشاء مشكلة للحياة في المحيطات، ويشير البعض أن مستويات “CO 2“ في الماضي كانت عالية جداً بأكثر من ضعف المستوى الحالي.
وذلك لم يُساعد فقط في تدفئة الكوكب في تلك الحقبة الزمنية، بل ظهر تأثيرها أيضاً على قاع البحار والمحيطات حيث أصبحت مياه المُحيطات حمضية مما أدى إلى انقراض أنواع عديدة من الكائنات البحرية.
حمام حامضي قاتل
يُشير البعض أحياناً إلى أن مياه المحيطات العميقة كانت حمضية للغاية بحيث يتعذر على كائنات القاع البقاء على قيد الحياة، وانقرض حينها ما يصل لنصف جميع أنواع الكائنات التي كانت تعيش في القاع خلال تلك الفترة.
إستمر الأمر فترة زمنية قدرها 5 إلى 10 آلاف سنة، وقد تبدو وكأنها فترة طويلة على مقياس الزمن البشري، ولكنها لحظة وجيزة في الزمن الجيولوجي، فعندما تختفي العديد من المخلوقات بتلك السرعة، فإن ذلك دلالة على حدوث انقراض جماعي.
كذلك يخشى بعض الدارسين إلى حدوث ذلك الإنقراض مرة أخرى وذلك بسبب تراكم أدلة مماثلة في رواسب قاع البحار والتي ستتحول يوماً ما إلى سجل صخري كامل في عصرنا.
السرعة ستقتل الكائنات
البشر يقومون بإعادة تشكيل الأرض أسرع من أي وقت مضى وخاصة حرق الوقود وضخ ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي ومن هناك إلى المحيطات.
السرعة التي يُغير بها الناس الغلاف الجوي للأرض كبيرة جداً، وهذا يُعني على الأرجح أنه حتى الكائنات التي تعيش بالقرب من سطح المحيط ستتأثر وستنقرض.
على مدى بضع مئات من السنين، وعند مُقارنة نسبه غاز ثاني أكسيد الكربون التي تستهلكها المُحيطات حالياً بما كانت علية في السابق مُنذ 56 مليون عام، فإن المُحيطات اليوم تقوم بإمتصاص الغاز بسرعة أكبر.
وبذلك فإن حمض الكربونيك لا يملك الوقت للانتقال إلى المياه العميقة، وعلى ذلك فإنه يتجمع بالقرب من سطح المحيط مما يجعل مياه المحيط السطحية بيئة صعبة للبقاء على قيد الحياة.
قد يؤدي فقدان كائن حي واحد مثل “الفورمانيفيرا” إلى تدهور جميع أنحاء شبكة الغذاء البحرية بأكملها، وهذا ما يمكن أن يتبع بحالات انقراض كبيرة وحينها ستكون المساحات الأكبر من المُحيط غير صالحة للحياة إلا للبكتيريا.
ماذا عن مُستقبل عصر الإنسان؟
لا يتفق جميع العلماء على الإعلان رسمياً عن أن الفترة الجيولوجية الحالية هي عصر الإنسان “الأنثروبوسين“، ولكنهم يتفقون على الأضرار والتغيرات الناتجة بسبب البشرية.
الشخص الذي لديه مخاوف بشأن إعلان وجود عصر الإنسان هو “ستان فيني” الذي يرأس اللجنة الدولية لطبقات الأرض والمسؤولة عن تحديد نطاق الزمن الجيولوجي.
يقول فيني:
” ليس هناك شك في أن البشر قد أثروا على الأرض بشكل كبير وملحوظ، وتسبب ذلك في ما يُشبه بإعادة تشكيل وبناء الأرض، ولكن في المقابل فإن النباتات كان لها تأثير أكبر بكثير مما أحدثه الإنسان، وذلك لأن النباتات غيرت الأكسجين والهواء والماء على الأرض، ومع ذلك لا نذكر فترة زمنية جيولوجية عندما فعلت النباتات ما فعلته، فلا يوجد عصر بإسم النباتات وليكن مثلاً بلانتوسين”
وعلى ذلك فإن مصطلح الأنثروبوسين مفيد، فتأثير الناس على كوكبنا ظاهر لا مُحال، ولكن لا يوجد داعي لإنشاء فترة جيولوجية مُحددة لتعكس هذا التأثير.
ومع كُل تلك المحاولات والتفسيرات لإنشاء عصر الإنسان، فإن عدم وجود طريقة لمعرفة ما إذا كانت “البصمة البشرية” على الأرض ستكون مرئية بالفعل في سجل الصخور بعد آلاف السنين من الآن، أم من الممكن أن يُمحى كل ما فعلناه بسبب الطبيعة.
فقط الوقت كفيل بإثبات ذلك للجميع.
Thank you!!1
على الرُحب.
محتوى رائع حقاً، شكرا للمساهمة في دعم المحتوى العربي.
بعض المقالات المفضلة لدي محفوظة في إشاراتي المرجعية، وهذه المقالة واحدة منهم.
حوار جميل بشأن تأثيرات الإنسان على الأرض، لقد قرأت كل ذلك، أشكرك.